ثقافة مقام اللون ومقام الروح : تشكلات الوعي في معرض "فراديس" للرسام سمير التريكي

بقلم زينات بوحاجب
مقدمــــة
"فراديس"، هكذا اختار الفنان سمير التريكي أن يسمّي معرضه الأخير، الذي افتُتح يوم 17 ماي 2025 بمدينة الثقافة الشاذلي القليبي. وعلى خلاف معارضه السابقة، لا يحيل هذا العنوان إلى ممارسة إجرائيّة أو فعل إنجـازيّ مباشر – كما كان الحال في "تطريسات" (2015) الذي أشار إلى التراكب والمحو والتلاشي، أو في "بين التشظي والإدراك" (2018) المتصل بالتصور الفركتالي – بل يستمد اسمه من نفس المنبع الذي تغرف منه أعماله عناوينها: "بزرخ"، "سكينة"، "قربان"، "طائر الفردوس"… عناوين تفتح على سجلّ روحانيّ عميق، يُدخل المتلقّي في حالة بهيجة من الصفاء، مشفوعة بسكينة نحن في أمسّ الحاجة إليها في عصر باتت اللاّيقينيات لغته الأولى.
ما يُدهش المتابع لمسيرة سمير التريكي لا يكمن فقط في تناغم الألوان أو في حضور المفردة المتجددة المتشبثة بأصالتها، ولا في تلك التكوينات المعقّدة التي أخضعت الشكل لحسابات دقيقة دفعت بالبعض إلى الاعتقاد بأنّ أعماله رقميّة – وفي ظنّهم خطأ – خصوصًا أمام تلك الإحاطات الغرافيكية التي لا يتجاوز سمكها 3 ملمترات على حامل يفوق 320 صم². إنّ ما يشدّ الباحث حقًا، هو هذا التجدّد الذي لا ينبع من مجرّد الرغبة في التغيير أو التحديث، بل من عمق فكري يرفض الاستكانة إلى المجانيّ، ويصرّ على تجاوز الشكل نحو الجوهر.
1- تشكّلات ما بعد الهندسي : انبثاقات العشوائي زمن اللاّيقين
لا تغيب عن أعمال التريكي تلك المفردات التشكيليّة المولودة من رحم المربعات، والدورانات، والطّباق النجمية، والتكوينات الشبكيّة المتراكبة، التي تستدعي ذهن القارئ وتغري الباحث بالتفكيك وإعادة البناء، إلّا أنّ اللاّفت في هذا المعرض هو الحضور المتصاعد لأشكال تلقائية، غير منتظمة، تبرز وسط النّظام وكأنّها نقيضه، أو لعلّه صدى داخلي له. هذه الأشكال الطافية على السطح، بألوانها المراوغة غير المستقرّة، توحي وكأنّ الشكل نفسه في حيرة، يبحث عن اكتماله، دون أن يبلغه. شكلٌ في قلق، في انتظار هوية لم تتبلور بعد.
ولعلّ ما يزيد من غرابة هذه الأشكال أنّها لا تحلّ محلّ المفردات القديمة، بل تتعايش معها، بل تدفعها إلى التجدد، كما لو أنّ المفردات الهندسية دخلت طورًا جديدًا من الصمود الناضج، ذاك الذي يقبل بالتحوّل دون أن يفقد أصالته. نحن إزاء نظام جديد، عشوائيّ في ظاهره، دقيق في عمقه، يوازي بين الصرامة الهندسية ومفاجآت اللاشكل، في صراع خلاق لا يبحث عن غلبة بل عن خصوبة المعنى.
حين أعلن التريكي عن ثقل التزامه بالتركيبات الهندسية "أعترف بأني أحسّ بسجن الهندسة والرياضيات ولكني أحاول أن أصل إلى النسق الذي يمكنني من حرية أكبر واحتمالات أوسع مدى"[1]"، لم يكن يعبّر عن رغبة في الانفصال عن قضايا مجتمعه أو الانسحاب من الهمّ الإنساني، بل كان ينحت موقفًا فنيًا يُنصت إلى التحولات ويدعو إلى ترويضها، لا لرفضها أو الاستسلام لها، بل لضبطها وإخضاعها لما يخدم القيم الكونية المهدّدة في زمن تسلّط اللامعيار. إنّه موقف الفنان الذي يرى في الفن وسيلة للمقاومة، لا للانسحاب، وفي الشكل أداة للفكر، لا للزينة.
من هنا، نفهم إصراره على الحفاظ على الحيز، على المساحة، من خلال هيمنة البناء الهندسي على الغنائي. وقد بلغ هذا التحكّم ذروته في لوحة "اشراق" التي تحضر فيها الخطوط البيضاء المستقيمة كأداة قَياسية تضبط الارتجال، وتمنحه ممرًا آمِنًا إلى المعنى. وفي هذا المشهد تبرز المفارقة: إحكام في "الصنعة"، وفسحة للصدفة، دقة تقنية تقابلها حرية تلقائية، كأنّ الفنان بلغ النقطة التي يتصالح فيها النقيضان.
مقطع من عمل "اشراق" للفنان سمير التريكي
عمل "اشراق" اكريليك للفنان على قماش. 180180/صم (2025)
2- نحو نزعة طبيعية:
إنّ علاقة التريكي بالطبيعة علاقة جدّ متينة رغم أنّها لم تكن يوما محلّ بحث أو تعمق من قبل القارئين لكتاباته واعماله، ونعتقد أن الأمر راجع بالأساس إلى غياب العلامات التصويرية التي تحيل على هذه الفكرة. كما أنّنا لم نعرف للرجل كتابات كثيرة في الموضوع غير مقولات قليلة تأتي في سياقات محاذية للموضوع ولكن لا تخوض فيه بطريقة مباشرة. وكتابات التريكي قواعد تكاد ان تكون نظريات رياضية، إذ لا يلقيها الّا بعد الوصول اليها بالبرهان والحجة فتكون قابلة للارتداد، منزوع عنها كل ما يمكن ان يضعفها من احكام مسبقة أو انطابعات ظرفية.
يقول التريكي " إنّ البحث عن الجوهري في الطبيعة وهذا هو دور الفن- يقودنا إلى اكتشاف الأنظمة والنّواظم والقوانين التي تحكم دائرة وجوده الحركيّة. إن العالم جملة من النسق الرياضي سواء كان ظاهرا أم باطنا" [2]" فالطبيعة بالنسبة إليه ليست خلفية محايدة، بل هي كيان حيّ شامل يحلّ فيه المعنى ويتجسّد فيه المطلق، هذه الطبيعة التي تمدّنا نواظمُها بأسرار الكون ومنافذه على الانعتاق من منزلقات الابتذال والماديّ تأخذ شكل ايقاعات بصرية أحيانا ومقروءة أحيانا أخرى وموسيقية في احيان كثيرة أخرى لم تعد متخفية في ترجمات بصرية للمقامات التونسية أو الطبوع كحال بعض منجزات المبدع، إنّ الطبيعة اتّخذت أيضا شكل التّلقائي وغير المنتظم، بل وحضرت حتّى في صيغتها المباشرة في عمل "برزخ" حيث تصارع المفردات الهندسية أوراقا نباتية رسمها الفنان أو اعتمد طباعتها فصار الحامل يستوعب الهندسي والتلقائي والطبيعيّ أليست هذه هي الطبيعة في صيغتها الروحانية، وكأنّ الفنّان يعلن في فراديسه أنّ الطبيعة ليست موضوعا للرؤية بل هي موضوع للإيمان أيضا. إنّ هذا التوجه يقارب تصورا وحدويا للوجود (panthésiste)، أين تختفي الحدود بين الخالق والمخلوق. وربما من هنا بالذات يتصاعد عبير السجل الروحاني.
عمل "برزخ" للفنان سمير التريكي
أكريليك على قماش*90 100- (2025)
3- في أثر الروحاني: البعد الصوفي في فراديس:
في تقديمه لكتاب "في مقام الاستعادة بين المقروء والمرئي[3]" (2023)، أشار الناقد علي اللواتي إلى النزعة الصوفية الكامنة في تجربة سمير التريكي، وهو توصيف بدا حينها ذا طابع استشرافي، إذ لم يكن هذا البعد الروحي معلنًا بوضوح في المراحل الأولى من مسيرة الفنان، التي بدت منشغلة أكثر بثنائيات مركزية: الممارسة والتنظير، الأنا والآخر، الأصالة والمعاصرة، الفكر المدون والفعل التشكيلي، التشظي والإدراك... وهي ثنائيات شكّلت بنية خطابه النظري ومساراته التشكيلية على السواء.
وإذا كنّا نؤكد على الطابع الاستشرافي في قراءة اللواتي، فإننا لا نغفل في المقابل انشغال التريكي بالتراث الإسلامي، ولا سيّما في توظيفه للمربّع، الذي لم يُعتمَد بوصفه شكلًا هندسيًا محايدًا، بل باعتباره حاملاً لشحنة رمزية ثقافية وروحية تتجاوز حدود التكوين إلى تخوم المعنى.
غير أنّ معرض "فراديس" يفتح أفقًا مغايرًا، إذ لا يتجلّى البُعد الروحي هنا بوصفه إحالة دينية مباشرة، ولا كرؤية صوفية مكتملة، بل يحضر باعتباره أثرا أو نبضا داخليّا صامتا، يتسرّب في تفاصيل اللون والإيقاع والتركيب. هو نوع من التأمّل الذي لا يُصرَّح به، بل يُتَمثَّل، حيث يصبح التشكيل وسيلةً للسكينة، لا لمجرّد التعبير.
العناوين ذاتها – "برزخ"، "قربان"، "سكينة"، "طائر الفردوس" – تشي بانزياحات رمزية من العالم المحسوس نحو أفق تأمليّ، يتقاطع فيه الجمالي بالميتافيزيقي. هنا، لا يُقترح الغيب كموضوع للتصوير، بل كهواء للتنفّس، كما لو أن الأعمال تُمارس "صلاة بصرية"، تنزع عن المقدّس هالته التقليدية، وتعيد تشكيله كأفق مفتوح، شفاف ومراوغ في آن.
أعمال التريكي ليست احتفاءً بالمطلق، بل بحثًا عن لحظة توقّف. عن أوان خارج الزمن، لحظة تتأرجح بين الانفعال والانخطاف، بين التجلّي والانمحاء. وكأنّ اللّون يُصلّي، والخطّ يتأمل، والشكل يحاول، في كل مرة، القبض على المعنى الهارب.
بهذا المعنى، يمكن القول إن تجربة التريكي تعيد للفن وظيفته الوجودية كـ"ملاذ للروح"، بل كـ"شكل من أشكال النجاة الممكنة"، في عالم تتكاثر فيه الضوضاء وينحسر فيه المعنى. وهي رؤية تتقاطع مع ما ذهب إليه روبيرت فيّو حين قال: "الفن هو ما يجعل الحياة أكثر أهمية من الفن نفسه."[4]
خاتمــــة
معرض "فراديس" لا يقدّم إجابات، بل يزرع أثرًا دافئًا في المتلقي. ذاك الأثر الذي يتركه الجمال حين يتجاوز سطح الحواس ليبلغ عمق الوعي. قد تكون السعادة التي يحسّ بها الزائر لحظة خروجه من المعرض وليدة تناغم بصري خفيّ، أو لعله وهج التجديد الذي تنقله الأعمال دون أن تفضح سرّه.
لكن الحقيقة، كما يعلّمنا التريكي، لا تُمنح، بل تُنتزَع عبر مجاهدة فكرية وتأمل متأنٍّ. الفن لديه ليس خطابًا جاهزًا، بل دعوة إلى بناء المعنى، إلى تجاوز الموقع السلبي للمتلقي، والانخراط الفعّال في تأويل الممكنات. إنّها تجربة تدرّب على الإصغاء لما لا يُقال، وعلى رؤية ما لا يُرى. هكذا يصوغ التريكي عبر أعماله مساراتٍ ذهنية وجمالية، لا تكتفي بإمتاع العين، بل تُحرّض العقل، وتوقظ الروح.
[1] التريكي(سمير)، حوار أجراه أسعد عرابي لفائدة جريدة الحياة اللندنية (مصدر مذكور).
[2]التريكي (سمير)، حوار أجراه أسعد عرابي مع الفنان سمير التريكي تحت عنوان :"سمير التريكي يعود إلى أبحاثه انطلاقا من تراث الفن الإسلامي". جريدة الحياة اللندنية (مصدر مذكور).
[3] في مقام الاستعادة بين المرئي والمقروء، للفنان المنظّر سمير التريكي، الطباعة سيمباكت، تونس 2022
[4] « L’art est ce qui rend la vie plus intéressante que l’art», Robert Filliou, Le lieu, Québec, 2003.